سورة التوبة - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قوله تعالى: {إنما المشركون نجس} قال أبو عبيدة: معناه: قذر. قال الزجاج: يقال لكل شيء مستقذَر: نجَسٌ. وقال الفراء: لا تكاد العرب تقول: نِجْسٌ، إلا وقبلها رِجْسٌ، فاذا أفردوها، قالوا: نَجَس.
وفي المراد بكونهم نجساً ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أنجاس الأبدان، كالكلب والخنزير، حكاه الماوردي، عن الحسن، وعمر بن عبد العزيز. وروى ابن جرير عن الحسن قال: من صافحهم فليتوضأ.
والثاني: أنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة، وإن لم تكن أبدانهم أنجاساً، قاله قتادة.
والثالث: أنه لما كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاسُ، صاروا بحكم الاجتناب كالأنجاس، وهذا قول الأكثرين، وهو الصحيح.
قوله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام} قال أهل التفسير: يريد: جميع الحرم {بعد عامهم هذا} وهو سنة تسع من الهجرة، وهي السنة التي حج فيها أبو بكر وقرئت {براءة}. وقد أخذ أحمد رضي الله عنه بظاهر الآية، وأنه يحرم عليهم دخول الحرم، وهو قول مالك، والشافعي. واختلفت الرواية عنه في دخولهم غير المسجد الحرام من المساجد، فروي عنه المنع أيضاً إلا لحاجة، كالحرم، وهو قول مالك. وروي عنه جواز ذلك، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز لهم دخول المسجد الحرام، وسائر المساجد.
قوله تعالى: {وإن خفتم عيلة} وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، والشعبي، وابن السميفع: {عايلة}. قال سعيد بن جبير: لما نزلت {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} شقَّ على المسلمين، وقالوا: مَنْ يأتينا بطعامنا؟ وكانوا يَقْدَمون عليهم بالتجارة، فنزلت: {وإن خفتم عيلة...} الآية. قال الأخفش: العيلة: الفقر. يقال: عال يعيل عَيْلة: إذا افتقر. وأعال إعالة فهو يُعيل: إذا صار صاحب عيال. وقال أبو عبيدة: العَيْلة هاهنا: مصدر عالَ فلانٌ إذا افتقر، وأنشد:
وما يَدري الفقيرُ متى غِناه *** وما يَدري الغنيُّ متى يَعيل
وللمفسرين في قوله: {وإنْ} قولان:
أحدهما: أنها للشرط، وهو الأظهر.
والثاني: أنها بمعنى وإذْ، قاله عمرو بن فايد. قالوا: وإنما خاف المسلمون الفقر، لأن المشركين كانوا يحملون التجارات إليهم، ويجيئون بالطعام وغيره.
وفي قوله: {فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء} ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه أنزل عليهم المطر عند انقطاع المشركين عنهم، فكثر خيرهم، قاله عكرمة.
والثاني: أنه أغناهم بالجزية المأخوذة من أهل الكتاب، قاله قتادة، والضحاك.
والثالث: أن أهل نجد، وجُرَشَ، وأهل صنعاء أسلموا، فحملوا الطعام إلى مكة على الظَّهْرِ، فأغناهم الله به، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {إن الله عليم} قال ابن عباس: {عليم} بما يصلحكم {حكيم} فيما حكم في المشركين.


قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله} قال المفسرون: نزلت في اليهود والنصارى. قال الزجاج: ومعناها: لا يؤمنون بالله إيمان الموحِّدين، لأنهم أقرُّوا بأنه خالقُهم، وأنَّه له ولد، وكذلك إيمانهم بالبعث لأنهم لا يقرُّون بأنَّ أهل الجنة يأكلون ويشربون. وقال الماوردي: إقرارهم باليوم الآخر يوجب الإقرار بحقوقه، وهم لا يقرُّون بها، فكانوا كمن لا يُقِرُّ به.
قوله تعالى: {ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسولُهُ} قال سعيد بن جبير: يعني: الخمر والخنزير.
قوله تعالى: {ولا يدينون دين الحق} في الحق قولان:
أحدهما: أنه اسم الله، فالمعنى: دين الله، قاله قتادة.
والثاني: أنه صفة للدين، والمعنى: ولا يدينون الدِّينَ الحقَّ؛ فاضاف الاسم إلى الصفة. وفي معنى {يدينون} قولان:
أحدهما: أنه بمعنى الطاعة، والمعنى: لا يطيعون الله طاعةَ حقٍّ، قاله أبو عبيدة. والثاني: أنه من دان الرجل يدين كذا: إذا التزمه. ثم في جملة الكلام قولان:
أحدهما: أن المعنى: لا يدخلون في دين محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه ناسخ لما قبله.
والثاني: لا يعملون بما في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية} قال ابن الأنباري: الجزية: الخراج المجعول عليهم، سميت جزية لانها قضاء لما عليهم؛ أُخذ من قولهم: جَزى يَجْزي: إذا قضى؛ ومنه قوله تعالى: {لا تَجْزِي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً} [البقرة: 48] وقوله: «ولا تَجْزِي عن أحدٍ بعدَك». وفي قوله: {عن يدٍ} ستة أقوال.
أحدها: عن قهر، قاله قتادة، والسدي. وقال الزجاج: عن قهر وذُلٍّ.
والثاني: أنه النقد العاجل، قاله شريك، وعثمان بن مقسم.
والثالث: أنه إعطاء المبتدئ بالعطاء، لا إعطاء المكافئ، قاله ابن قتيبة.
والرابع: أن المعنى: عن اعتراف للمسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم.
والخامس: عن إنعام عليهم بذلك، لأن قبول الجزية منهم إنعام عليهم، حكاهما الزجاج.
والسادس: يؤدُّونَها بأيديهم، ولا ينفذونها مع رسلهم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: {وهم صاغرون} الصاغر: الذليل الحقير.
وفي ما يُكَلَّفونه من الفعل الذي يوجب صغارهم خمسة أقوال.
أحدها: أن يمشوا بها مُلَبَّبين، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن لا يُحمدوا على إعطائهم، قاله سلمان الفارسي. والثالث: أن يكونوا قياماً والآخذ جالساً، قاله عكرمة. والرابع: أن دفع الجزية هو الصغار. والخامس: أن إجراء أحكام الإسلام عليهم هو الصغار.
فصل:
واختُلف في الذين تؤخذ منهم الجزية من الكفار، فالمشهور عن أحمد: أنها لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس، وبه قال الشافعي. ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد: أنه من سُبي من أهل الأديان من العرب والعجم، فالعرب إن أسلموا، وإلا السيف، وأولئك إن أسلموا، وإلا الجزية؛ فظاهر هذا أن الجزية تؤخذ من الكل، إلا من عابدي الأوثان من العرب فقط، وهو قول أبي حنيفة، ومالك.
فصل:
فأما صفة الذين تؤخذ منهم الجزية، فهم أهل القتال. فأما الزَّمِنُ، والأعمى والمفلوج، والشيخ الفاني، والنساء، والصبيان، والراهب الذي لا يخالط الناس، فلا تؤخذ منهم.
فصل:
فأما مقدارها، فقال أصحابنا: على الموسر: ثمانية وأربعون درهماً، وعلى المتوسط: أربعة وعشرون، وعلى الفقير المعتمل: اثنا عشر، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعون درهماً، وسواء في ذلك الغني والفقير. وقال الشافعي: على الغني والفقير دينار. وهل تجوز الزيادة والنقصان مما يؤخذ منهم؟ نقل الأثرم عن أحمد: أنها تزاد وتنقَص على قدر طاقتهم، فظاهر هذا: أنها على اجتهاد الإمام ورأيه. ونقل يعقوب بن بختان: أنه لا يجوز للامام أن ينقص من ذلك، وله أن يزيد.
فصل:
ووقت وجوب الجزية: آخر الحول، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تجب في أول الحول. فأما إذا دخلت سنة في سنة، فهل تسقط جزية السنة الماضية؟ عندنا لا تسقط. وقال أبو حنيفة: تسقط. فأما إذا أسلم، فانها تسقط بالإسلام. فأما إن مات؛ فكان ابن حامد يقول: لا تسقط. وقال القاضي أبو يعلى: يَحتمل أن تسقط.


قوله تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر، وحمزة: {عزيرُ ابن الله} بغير تنوين. وقرأ عاصم، والكسائي، ويعقوب، وعبد الوارث عن أبي عمرو: منوّناً. قال مكي بن أبي طالب: من نوَّن عزيراً رفعه على الابتداء، و{ابن} خبره. ولا يحسن حذف التنوين على هذا من {عزير} لالتقاء الساكنين. ولا تحذف ألف {ابن} من الخط، ويكسر التنوين لالتقاء الساكنين. ومن لم ينون {عزيراً} جعله أيضاً مبتدأ، و{ابن} صفة له، فيُحذف التنوينُ على هذا استخفافاً لالتقاء الساكنين، ولأن الصفة مع الموصوف كالشيء الواحد، وتحذف ألف {ابن} من الخط، والخبر مضمر تقديره: عزير بن الله نبيُّنا وصاحبنا. وسبب نزولها: أن سلاَم بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: كيف نتَّبِعُكَ وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال ابن عمر، وابن جريج: إن القائل لذلك فنحاص. فأما العزير: فقال شيخنا أبو منصور اللغوي: هو اسم أعجمي معرب، وإن وافق لفظ العربية، فهو عِبراني، كذا قرأته عليه. وقال مكي بن أبي طالب: العزير عند كل النحويين: عربي مشتق من قوله يعزِّروه. وقال ابن عباس: إنما قالوا ذلك، لأنهم لما عملوا بغير الحق، أنساهم الله التوراة، ونسخها من صدورهم، فدعا عزير اللهَ تعالى، فعاد إليه الذي نُسخ من صدروهم، ونزل نور من السماء فدخل جوفه، فأذَّن في قومه فقال: قد آتاني الله التوراة؛ فقالوا: ما أُوتيها إلا لأنه ابن الله. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل، وهدم بيت المقدس، وقتل من قرأ التوراة، كان عزير غلاماً، فتركه. فلما توفي عزير ببابل، ومكث مائة عام، ثم بعثه الله تعالى إلى بني اسرائيل، فقال: أنا عزير، فكذَّبوه وقالوا: قد حدَّثنا آباؤنا أن عزيراً مات ببابل، فان كنتَ عزيراً فأملل علينا التوراة، فكتبها لهم؛ فقالوا هذا ابن الله.
وفي الذين قالوا هذا عن عزير ثلاثة أقوال.
أحدها: أنهم جميع بني اسرائيل، روي عن ابن عباس.
والثاني: طائفة من سلفهم، قاله الماوردي.
والثالث: جماعة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم قولان:
أحدهما: فنحاص وحده، وقد ذكرناه عن ابن عمر وابن جريج.
والثاني: الذين ذكرناهم في أول الآية عن ابن عباس.
فان قيل: إن كان قولَ بعضهم، فلِمَ أُضيف إلى جميعهم؟ فعنه جوابان.
أحدهما: أن إيقاع اسم الجماعة على الواحد معروف في اللغة، تقول العرب: جئت من البصرة على البغال، وإن كان لم يركب إلا بغلاً واحداً.
والثاني: أن من لم يقله، لم ينكره.
قوله تعالى: {وقالت النصارى المسيح ابن الله} في سبب قولهم هذا قولان:
أحدهما: لكونه ولد من غير ذكَر.
والثاني: لأنه أحيى الموتى، وأبرأ الكُمْةَ والبُرص وقد شرحنا هذا المعنى في [المائدة: 110].
قوله تعالى: {ذلك قولهم بأفواههم} إن قال قائل: هذا معلوم، فما فائدته؟ فالجواب: أن المعنى: أنه قول بالفم لا بيانَ فيه، ولا برهانَ، ولا تحته معنى صحيح. قاله الزجاج.
قوله تعالى: {يضاهون} قرأ الجمهور: من غير همز. وقرأ عاصم: {يضاهئون}. قال ثعلب: لم يتابع عاصماً أحد على الهمز. قال الفراء: وهي لغة. قال الزجاج: {يضاهون} يشابهون قولَ من تقدَّمَهم من كَفَرتِهم، فانما قالوه اتباعاً لمتقدِّميهم. وأصل المضاهاة في اللغة: المشابهة، والأكثر ترك الهمز؛ واشتقاقه من قولهم: امرأة ضهياء، وهي التي لا ينبت لها ثدي. وقيل: هي التي لا تحيض، والمعنى: أنها قد أشبهت الرجال. قال ابن الأنباري: يقال: ضاهَيت، وضاهأت، إذا شبَّهتَ. وفي {الذين كفروا} هاهنا ثلاثة أقوال.
أحدها: أنهم عبدة الأوثان، والمعنى: أن أولئك قالوا: الملائكة بنات الله، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم اليهود، فالمعنى: أن النصارى في قولهم المسيح ابن الله شابهوا اليهود في قولهم عزير ابن الله، قاله قتادة، والسدي.
والثالث: أنهم أسلافهم، تابعوهم في أقوالهم تقليداً، قاله الزجاج، وابن قتيبة.
وفي قوله: {قاتلهم الله} ثلاثة أقوال.
أحدها: أن معناه: لعنهم الله، قاله ابن عباس.
والثاني: قتلهم الله، قاله أبو عبيدة.
والثالث: عاداهم الله، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: {أنى يؤفكون} أي: من أين يصرفون عن الحق؟.
قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم} قد سبق في [المائدة: 44] معنى الأحبار والرهبان. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية، فقال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئاً استحلُّوهْ، واذا حرموا عليهم شيئاً حرّموه» فعلى هذا المعنى: إنهم جعلوهم كالأرباب وإن لم يقولوا: إنهم أرباب.
قوله تعالى: {والمسيحَ ابن مريم} قال ابن عباس: اتخَذوه رباً.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10